[مدن، زاوية جديدة على "جدلية" يكتب فيها الكتاب والكاتبات عن مدنهم المفضلة ]
ولدت في مستشفى حكوميّ بمدينة طيّبة اسمها سلا، هي مدينة عتيقة وغير مدعية، مصابة بضيق مزمن بسبب التصاقها المحرج بمدينة مشهورة ومعتدّة بنفسها اسمها الرباط.
كان يروق لي في مراحل متعددة من حياتي السابقة التنقل بين المدينتين بواسطة المراكب الخشبية التقليدية التي كانت تحمل العابرين بين ضفتي نهر أبي رقراق الذي خلده عبد الهادي بلخياط في أغنيته الشجية "القمر الأحمر". كنت أجد متعة في تأمل مشهد المدينتين العدوتين المحكومتين بمواجهة بعضهما البعض للأبد، كأنهما توأم سيامي لم تحقق فيه الطبيعة التوازن المطلوب.
نجحت إذن، في الخروج إلى الحياة ذات صباح من شهر مارس في القرن الماضي، من أم صغيرة و متديّنة من شمال المغرب ومن أب مراكشي أصلع و خفيف الظلّ. كانت أمي تحرص دائماً و نحن في طريقنا إلى”السويقة” * في المدينة القديمة وأنا أدسّ يدي تحت إبطها الدافئ، أن تمرّ بمحاذاة مستشفى الولادة لتشير بأصبعها إلى البوابة الكبيرة و تهمس لي بصوت فرح ذي رنة شمالية :" هنا ولدتك" فكان شعور السعادة الساذج ينتقل إليّ بسرعة قياسية. . . لألتصق بها أكثر. . .لقد كان إنجازاً كبيراً أن أجئ إلى هذا العالم.
على خلاف باقي إخوتي الذين ولدوا في مصحات خاصّة بمدينة الرباط، ولدت بسلا وبمستشفى مجاني. كنت بالتأكيد السلاوية الحمقاء داخل أسرتي. كنت ككلّ السكان بسلا أصاب بالحمق عند العصر**وهو أمر ناسبني كثيراً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى سوف أعلم فيما بعد أن تاريخ ولادتي تزامن مع أزمة مالية خانقة كانت تمرّ بها الأسرة، خصوصاً بعد حادثة السير التي تعرض لها أبي في تلك الأيّام. لهذا السبب لم يحتفل أحد بمجيئي إلى هذا الوجود. لم يذبح أيّ خروف (هذا الخبر بالضبط كان مصدر ارتياح بالنسبة لي، فعلى الأقل لم يكن "دخولي" إلى هذا العالم مناسبة سيئة "لخروج" خروف برئ منها) إضافة إلى هذه الوقائع التي تزامنت مع "تشريفي"، تقول أمي إنّني كنت أزن كيلوين إثنين فقط و أنهم أمضوا الشهر الأول من حياتي ينتظرون أن "أنفق" مثل قطة ضعيفة ميؤوس منها. سوف تخبرني أمّي فيما بعد (خلال زيارتها لي بعد إنجابي لطفلي الأوّل) أنّها ستظل تحمل معها شعوراً عميقاً بالذنب تجاهي لا تدري إن كانت ستتحرر منه أم لا: يبدو حسب ما فهمت أنّها لم تكن أصلاً راغبة في إنجابي. لكني ظللت ملتصقة برحمها حتى اكتمل نموي(أو كاد بالأحرى) لأخرج للحياة. وما زلت إلى اليوم لم أستطع أن أستوعب كيف استحقّ هذا الأمر كلّ تلك الاستماتة الغبية.
سلا مدينتي، كانت فيما مضى مدينة قراصنة وهي حقيقة لطالما كانت مصدر فخر لي. أمضيت طفولتي الأولى ألعب لعبة الحرب في الزقاق مع الأولاد، نخوض المعارك كقراصنة شجعان ضد الأعداء في الأحياء الأخرى. أما لعب البنات فلم يكن يستهويني دائماً. كان لعباً ساكناً و نظيفاً. أمّا أنا فكنت أخبئ دوامتي الخشبية مع خيطها الطويل في جيبي الخلفي. أبي الذي كان يؤمن بحقّ البنت في اللعب والانطلاق لم يكن يمنعني، عكس أمي صاحبة "القرصات" التي تتحوّل إلى دوائر زرقاء على فخطيّ النحيلتين في اليوم الموالي.
مدرستي الأولى بحي "تابريكت" كانت مدرسة ابتدائية جديدة مختلطة شيدت بمحاذاة مدرسة الذكور القديمة حيث كان يدرس أخي الأكبر. رافقني إليها أبي في أول يوم للدراسة. كان بابها الحديدي عالياً جداً حتى بالنسبة للآباء. حملني أبي على كتفيه لأراها من الداخل. شاهدت امرأة ضئيلة ترتدي وزرة وردية تمرّ من هناك. سمعت أبي يقول: "إنّها معلمتك" ثمّ سوف أكتشف فيما بعد أنها لم تكن سوى الحارسة نعيمة التي كانت تقيم بمنزل صغير داخل المدرسة والتي كانت تعصر في عيوننا المرهم الأصفر المزعج في نهاية الحصة. و أنّه لا ينبغي الوثوق بما يقوله الكبار دائماً.
أمضيت خمس سنوات بمدرسة "موسى بن نصير" وخرجت منها أحمل بعض الذكريات التي أصبحت تتحول إلى صور باهتة وضبابية يوماً بعد يوم، كلما ابتعدت أكثر.
كان الطريق من وإلى المدرسة طويل جداً وكنت أقطعه بمفردي على الأقدام، بحيث كانت سنوات طفولتي عبارة عن مونولوغ داخلي طويل لا يوقظني منه سوى جرس الدخول. أما أجمل اللحظات فكانت هي تلك التي كان ينفحني فيها أبي نقوداً كي أذهب عند "بّا العدراوي" صاحب المكتبة في الحيّ المقابل لسوق الخضر"بتابريكت" لأقتني منه قصة من القصص السحرية التي أصبحت تمنح ليومي الدراسي طعماً آخر.
أذكر كيف كنت أدسّها تحت القمطر لأتابع قراءتها خلال الدرس في غفلة من المعلم. لم يكن هذا الأخير ينتبه لما أفعل، في غالب الأحيان. لكن في المرات التي ضبطت فيها، كنت أؤدي ما كان علي من دين في هذا الخصوص. بعد ذلك ستستمر مغامرة القراءة في فضاءات أخرى ربما كان أهمها فضاء المكتبة البلدية بسلا.
أكاد أرى مراهقة في الخامسة عشر من عمرها مبللة بالمطر لفضتها للتو حافلة مهترئة. تركض وهي تدسّ أوراقها تحت حزام سروالها في اتّجاه تلك البناية العظيمة التي كانت تقف جليلة أمام شاطئ البحر. حيث ستحتمي من المطر والبرد بدفء الأفكار الخارقة التي كانت تعثر عليها مدسوسة بعناية داخل الكتب الكثيرة التي كانت تبتسم فوق الرفوف...
* سوق تقليدي يوجد تقريباً في كل المدن المغربية القديمة.
** هناك حكاية شعبية مغربية تقول أن سكان سلا يصابون بالحمق عند العصر. وهناك تفسير تاريخي للحكاية لكن النسخة الشعبية تجعلها مناسبة للسخرية من السلاوييين.